بمن ابدأ ، ابدأ بخالتي هدي ، تلك السيدة الجميله ذات الشعر الكستنائي والعيون الملونه وام البنات الكثيرة وصاحبه الهيبه والسطوه والخدم والسائق والطباخ ، و ذات الحضور الطاغي وخفه الدمه المتناهية ، سيدة اذكرها تحبني كثيرا ، وتحب امي اكثر ، تعتبر امي ابنتها البكريه ، وعاشت خالتي وحتي ماتت تتبني امي ، ترسل لها الكعك في العيد ،واطباق الفراولة بالكريم شانتيه في اول موسم الفراولة ، وتأخدها معها للمصيف في المعمورة ، و تشتري لها من خلف ظهر زوجها الاقمشه الحريرية و الهدايا الذهبية الصغيرة .. كانت خالتي هدي سيده قويه ، لكنها كانت معذبه بخلفه البنات ، اللاتي لايحجبن الميراث عن ثروة زوجها الاقطاعي الضخمه ، كانت تتحدث الفرنسية شأنها شأن بنات اسر المجتمع الراقي ، وادخلت بناتها مدارس الليسية ، وانجبت المرة تلو الاخر بحثا عن الذكر الذي لم يأتي ، ورغم ان زوجها كان السبب ، حيث انجب طفله ، ماتت سريعا ، من خادمته فاقتنع ان خالتي ليست هي السبب ، الا ان خالتي انهارت اعصابها بسبب تلك الزيجه ، وتناولت الادويه المهدئه ودخلت المصحه وعاشت بقيه عمرها القصير تنام في التاسعه مساءا وتصحا فجرا ، وتترك لنا الليل نحن وبناتها نعيث في الدنيا فسادا .. كانت خالتي متعاليه ، اقطاعيه النزعه ، ورثت ذلك عن ابيها و تمسكت به بسبب زوجها الثري وثروته التي فرضت عليها الحراسه ، وعاشت تكره الثورة ، و تعطف علي الفقرا والفلاحين ، وتتمني خلفه الولد حتي ماتت ذات ليله بغير سبب الا شويه صداع ، انهوا حياتها وتركوا من خلفها بناتها الثمانيه تلاطمهم امواج الحياة العاتيه .. كانت خالتي تحبني كثيرا ، وتؤثرني علي كل البنات ، سواء بناتها او اختي او بنت اخيها ، وهو ايثار اسعدني وقت ذاك ، الا انه مع الكبر والنضج ترك في نفسيتي الما بسبب ما احدثه ذلك الايثار من تعذيب للاخريات . . كانت خالتي تحبني لاني بيضه ، وتسخر من فافي ابنتها المماثله لي في العمر واشطر مني في الدراسه لكنها اسمر مني ، وعاشت فافي تكرهني ، لاني بيضه ، وافصحت لي عن ذلك في مراهقتنا بعد ان ماتت خالتي واقتربنا من بعضنا البعض رغم انني بيضه وهي سمرا .. يومها قالت لي ان حديث امها كان يعذبها ، ويجعلها تكرهني ، وتألمت لحالها ، و لما سببه حديث خالتي لها ، واليوم وبعد ان مرت كل هذه السنين ، مازلت افكر ، لماذا كانت خالتي تعذب فافي بسخريتها ، بالذات وهي تزوجت رجل اسمر فلاح اقطاعي ، وهب بعض بناته سمار البشره ، ثم ترك لهم بعد موته ثروه ضخمه واسم رنان ... اليوم اسأل نفسي سؤال مهم ، لماذا احببت خالتي هذا الحب ، الذي بقي في قلبي رغم موتها منذ عشرات السنين ، هل لانها كانت تحبني ، هل لانها كانت تحب امي وتدللها ، هل لاسباب اخري سقطت من الذاكرة ، لااعرف بالضبط ، لكني كنت ومازلت احبها .. وعلي الرغم من الحب ، احمل لخالتي بعض المواقف القاسية ، التي اثرت علي احساسي العام بها ، فعلي الرغم من تذكري العام لحنانها ، ذلك الحنان الفياض ، الا انني احس غصه في قلبي ، تجعلني لا اصدق كل الحنان وكل الرقه التي كانت تبديهم ، واحس من خلف قسوه وجهامه انسانيه .. في يوم اخذتنا خالتي ، نحن وماما وبناتها ، لشيكوريل لتشتري لنا مستلزمات العيد ، اشترت لبناتها ، شنطا جديده واشترت لامي ايضا شنطه جديده ، ثم نظرت لي وناولتني شنطه جديده وهي تبتسم "دي لبيبتي " وهذا هو اسم التدليل الذي اختارته لي وبقي ملازما لي في منزلها ، ومازلت كوثر بدران تردده ، انا بيبتي ، اذن الشنطه الجديده لي ، حملنا جميعنا الشنط الجديده عدا مشيرة اختي الصغير ة والتي كانت وقتها تقرب من الرابعه ، وقفت مشيرة معنا تنقي الشنط مثلما ننقي ، و تختار الالوان كما نختار ، لكن وقت الشر اء لم يشتري لها احد شنطه ، فامسكت بواحده وتمسكت بها واصرت " انا عايزة دي " لكن خالتي لم تشتريها ،وسحبتها من يدها وهي تسأل امي " هي مش عندها واحده " ولم تشعر امي بمشاعر مشيرة ، وسحبت من يدها الشنطه ، وهكذا كانت مشيرة وحدها بلا شنطه جديده ، صغيره حائرة لاتفهم ، لماذا لم يشتروا لها شنطه جديده ، الاكثر الما في ذاكرتي ، انني ايضا سحبت من يدها الشنطه ، لم اشعر بها ، منذ سنوات طويله ووقتما اتذكر تلك القصه ، التمس العذر لنفسي بأنني كنت صغيره ، لكن احساس الانانيه داخلي وقتها يؤلمني ، اتذكر نفسي وقتها واري الصورة بكل تفاصيلها ، اري نفسي احتضنت شنطتي الجديده وتركتها خاويه الوفاض ، دون اكتراث لاحساسها بالتفرقه بيننا من خالتي ،يومها وخرجت مشيرة دوننا كلنا سافره اليدين ، دامعه العينين ، ومازلت الوم امي علي عدم احساسها بمشيرة في هذا الموقف الصغير ، ولا اعرف ان كانت مشيره تتذكر ذلك الموقف ام لا ، وماتت خالتي وماتت امي ونسيت مشيرة ، وبقي منظرها طفله صغيره حائره في وسط المحل بلا شنطه جديده ، يعذبني ، ويؤلمني ويدينهم جميعا وانا معهم و يكرر داخلي سؤال لم اجد له ابدا اجابه ، كيف كانوا هكذا قساه القلوب ؟؟ .. لماذا احب خالتي ، ربما لانها ونحن صغار كانت مصدر البهجه لنا جميعا ، فبيتها مليء بالضجيج والصخب ، والعيد في منزل خالتي عيد سعيد ، ملي بالشيكولاته الكور المحشوة بالبندق وصفائح الكعك والغربيه ، ربما لان طعم مربه الجزر الاحمر التي كانت تصنعها مكعبات مازال في فمي ، ربما لان صواني الكنافه بالقشطه التي كانت يتفنن الاسطي مصطفي الطباخ في صناعتها في رمضان ، تنز عسل وقشطه نأكلها ساخنه علي ترابيزة الفطار المزدحمه مازالت تثير في قلبي الشجن علي ايام الطفوله التي ذهبت وتركت لنا الخواء والذكريات ، ربما لان طعم قالب الكيك الساخن الذي كانت ترسله خالتي لنينه في الصباح المبكر ،نأكله مع الشاي في بيت نينه كان يسعدني ، لا اعلم بالضبط ، لكني احببتها حتي ماتت وعشت سنوات طويله وحتي الان حزينه علي موتها ، ربما وقت افكر الان في سبب هذا الحب ، لا اعرفه بالضبط، لكن المهم ان ذاكرتي تحمل لها حبا كبيرا .. وقت ماتت خالتي اخفوا عليا لاني كنت في الكويت ازور ابي ، فلم ابكي عليها وقت موتها ، ولم احضر طقوسه ، فبقي البكاء عليها في داخلي معلق ، ممتزج بحزن لم تبدده كل تلك الايام .. قالوا لي اكثر من مرة انني مثل خالتي ، وكان المقصود من تلك الجمله مدحا ، لكني في اعماقي كنت اراها قاسيه متغطرسه ، فلم احب تشبيهي بها ، فانا وبحق اكثر حنانا ورقه .. وماتت خالتي وتركت خلفها بناتا ثمانيه ، وعلبه صيغه انيقه توزعت عليهم ، وصورا لها وهي صغيره ، صورا ابيض واسود لانها ماتت قبل الالوان ، وتركت ملابسها الانيقه تتوزع صدقه علي الفقراء والمحتاجين وبعض الذكريات في مخيلتي ، وكثير من الحزن والحسره في قلب نينه مديحه وكثيرا من الوحده والالم وفقدان الاحساس بالامان عند امي ، الله يرحمهم جميعا !! وبقيت الفراوله بالكريم شانتي و الكيك الساخن والكنافه بالقشطه و مربه الجزر الاحمر ، اشياء تذكرني بخالتي وطعم ايامها الجميله في فمي !! ماهذه المشاعر حب قسوه اشتياق غضب ... عجبا للبشر احياء او اموات هم قادرين بسهوله ويسر ان يتركوا في نفوسنا كل الاحاسيس المتناقضه ويتركوا بصمتهم علي قلوبنا لا ننساهم مهما كان رآينا فيهم ومشاعرنا تجاههم .....
هناك تعليق واحد:
هناك نوع من البشر نحيا العمر نتاسف على موته ونختم ذلك بتلك العباره الشهيرة ميغلاش على ربناونبقى نتذكرة ونترحم عليه ونخلد ذكراه
ونوع اخر من البشر يطول به العمر ليكون سبب تعاسه من حوله
ونتوجه الى الله متضرعين مش اعتراض يارب بس سايبهم بينا ليه
الفرق رهيب بين العبارتين
لو يدركه البشر لتغيرت اشياء كثيرة فى تلك الدنيا
إرسال تعليق