وقفت امام بوابة سجن مزرعة طرة تحت الشمس الحارقة امسك في يدي وبقوة طفلتي الصغيرة الجميلة باعوامها الثلاث ، يتصبب وجهي المتعب عرقا ممزوجا بالتراب المتناثر في الهواء تحت اقدام الاخرين انتظر فرجا من الله لايأتي سريعا ،كنت خرجت من منزلي مبكرا بعد ليله لم اذق في اي لحظه منها طعم النوم تشغل رآسي وتؤرقني الافكار وهم الزياره الكئيبه التي اعتدت علي طقوسها اللعينه ومشاعرها الموجعه ، نظرت للبوابه الخشبيه الكبيره تحس السوس ينخر بدنها يتطاير من بين شقوقها ذرات تراب لاسعه تتراكم علي وجههك وقطرات العرق وتراب الشارع مزيجا كريها لا تترك رائحته انفي لايام طويله ولا يخرج من مسام جسدي الا بعد حمام ساخن اقطع فيه جسدي بغضب وحزن وقرف لان الظروف اللعينه اجبرتي علي اعتياد الوقوف امام تلك البوابه انتظارا للحظه لم احس ابدا بسعاده حين تداهمني ولم احس ابدا براحه حين ترحل عني وتتركني وشجوني ، اركن حقائبي الجلدية علي جدار البوابة واشعل سيجارتي بعصبيه التهمها متظاهرة بقوة لا احسها فعلا ينتفض جسدي بتوتر فلسعات الذباب الصحراوي الذي يلتصق فوق جلدي يوجعني احسني فريسه نتنه تركتها الصدفه وليمه شهيه لاسراب الذباب المتوحشه التي خرجت من الجبل هائمه علي وجهها فلم تجد وسط هذه الحشود الكثيره الا جسدي تحط عليه فينتفض احتجاجا كآنه سيفر من المكان القذر لكني لا اسمح له الا بالبقاء اسير امام تلك البوابه العتيقه ينتظر انينها تعلن عن بدايه لحظه الرحيل عن ذلك المكان الكريه لكن انتظاري يطول والبوابه لا تفتح و" علي " الصول الفقير الطيب الممسك بمزلاجها لا يرد علي فالاوامر العسكريه التي تحاصره تمنعه من الحديث معي وانا زائره لرجل خطر يتعين الاحتراس منه ومن زواره ومن كل " اللي يجيي من ناحيته " ، اتحدي الانتظار الممل و الرتابة والغضب الدفين المشتعل في نفسي بالتحديق في وجوه البشر المنتظرين معي ، بشر متعبين ارهقهم الاسي والهم وسوء المعامله والايام السودا التي القت بهم رغما عن انوفهم امام تلك البوابه ينتظرون رؤيه وزياره الاحباء خلف القضبان ، تكاد كف ابنتي ان تفلت من اصابعي تنزلق من بينهما قطرات عرق عفر ، لكني لا اتركها ولا اكترث بغضبها للاسر الذي يقيد حركتها البرئية ، بل واهددها بنظراتي التي تعرف معناها ان فكرت في الفكاك من قبضتي او الابتعاد ولو خطوه واحده عني ، اقف انا وهي غريبتين عن المكان وعن رواده ، منعزلتين بجوار البوابه الخشبية العتيقه وسورها الحجري الصلد ، وحيدتين صامتتين ، تلتهمنا اعين الزائرين فقراء بؤساء يحملون علي روؤسهم سلال وشنط ورقية مكتظة ثقيلة ، ينتظرون دورهم في الدخول ، زائرين عودتهم قسوة الايام علي سماع اهانات لفظية لاتمس بنصلها قلوبهم المتعبة اهانات تصدر من العساكر الفقراء البؤساء المصلبون امام بوابات السجن وعلي اسواره .. اشعل سيجارة ثانيه وثالثه ويزداد تشبسي بكف ابنتي كأنها ملاذي من وحدة موحشة وانتظار قاهر ، وقبل ان يفيض بي وانوي ان اغادر ولا اعود ابدا ، تفتح البوابة الخشبية ويطل علي من خلفها مبتسما كأنه منحني مالا استحق ومن علي من عنده بمنة ليست لي ،ويومأ لي برأسه ايماءة اعرف معناها ، فاترك كف ابنتي التي تعرف طريقها جيدا الي الداخل واحمل حقائبي الجلدية الثقيلة وازفر انفاسي الساخنة استعيذ من نفسي وغضبي وارسم علي وجهي ابتسامة مصطنعة آملة ان تخدعه وادخل من البوابة تتابعني اعين بقية الزائرين حسدا تأكل الشمس رؤوسهم وتحرق اشعتها جلودهم المحترقة ينتظرون دورهم في اتمام تلك الزياره الكريهة !!! وقبل ان ترتاح ذراعي من احمالها وقبل التقاط انفاسي وقبل الانتهاء من بث همومي وقص حواديتي يصرخ احدهم معلنا انتهاء الزياره فاقبض علي اصابع ابنتي واسحبها لخارج البوابه العتيقه وحين تسطع الشمس في عيني فلا اري الدرجه الحجريه التي اوقعتني من فوقها عشرات المرات ادرك بالغريزه والفطره واعي ببقايا عقلي المرهق ان الزياره قد انتهت واني في طريقي لحياتي العاديه كآنها طبيعيه مثل حياه الاخرين وفي اعماق نفسي هم المره القادمه حين ساعود ثانيه انا والحقائب الثقيله وابنتي البرئيه ونقف للمره الالف غرباء وحيدين ننتظر انين البوابه الخشبيه وصرير مزلاجها !!!!!!!! وتتغير الفصول وتتعاقب الايام ونبقي انا وابنتي وحقائبي وهمومي ننتظر امام البوابه الخشبيه......
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق